حسين بن ميلود: عازف الناي والفلوت الذي يتكلم صمته ويُسمع نفَسه

حسين بن ميلود: عازف الناي والفلوت الذي يتكلم صمته ويُسمع نفَسه
الموهبة الحقيقية لا تحتاج إلى الصراخ لتُسمع، فالنفَس يمكن أن يحمل أبعد من الضجيج.
في صخب الأضواء والمسارح الكبرى، قليلون هم من يأخذون الوقت للاستماع حقًا. خلف النجوم الذين يحتكرون الاهتمام، يوجد ضوء آخر، أكثر خفوتًا، ولكنه لا يقل إشراقًا. إنه ضوء موسيقيي الظل، أولئك الذين يجعلون روح الأوركسترا تهتز دون أن يطالبوا بالمجد أبدًا. حسين بن ميلود من هذا الطراز. معلم، شاعر للنفَس، وصانع للصمت الذي يتكلم.
عازف فلوت وناي استثنائي، يجسد حسين بن ميلود شخصية نادرة في المشهد الموسيقي التونسي. إنه أكثر من مجرد عازف آلة؛ هو حامل لنفَس الأجداد، فنان تبدو كل نوتة من عزفه وكأنها تنبع من ذاكرة جماعية عميقة وحية. بالنسبة له، التقنية ليست غاية أبدًا، بل وسيلة للتعبير. مفتاح يفتح عوالم.
تلقى تدريبه في أكبر الفرق الموسيقية، وقد تمكن من فرض أسلوبه دون أن يرفع صوته أبدًا. عزفه يتميز بدقة آسرة: تتحول الفلوت تحت أصابعه إلى صوت داخلي، هش وقوي في آن واحد، قادر على ترجمة مشاعر لا تستطيع الكلمات التعبير عنها. بين الروحانية الصوفية، الألحان الشعبية، والاستكشافات المعاصرة، ينسج حسين بن ميلود لغة فريدة، على حدود المقدس والحميمي.
عزفه المنفرد، الذي غالبًا ما يُدرج في اللحظات البارزة للحفلات الموسيقية والسهرات، لا يسعى إلى التأثير البصري المذهل. بل يأسر بدقته، وكثافته العاطفية، وعمقه. يكتشف الجمهور، الذي غالبًا ما يتفاجأ، في هذه اللحظات المعلقة عالمًا غير متوقع: عالم النفَس الذي يشفي، والنوتة التي تواسي، والصمت المأهول.
لكن حسين بن ميلود هو أكثر من مجرد موسيقي بارع. إنه ناقل، حلقة وصل بين الأجيال، بين التقاليد والحداثة. وفيًا لجذوره، لا يتوقف عن تجديد منهجه، مستكشفًا أشكالًا جديدة للتعبير، مع بقائه متجذرًا في جمالية تونسية عميقة.
يحظى بتقدير أقرانه، ويحترمه كبار الأسماء في المشهد الموسيقي، ولم يسعَ أبدًا إلى الشهرة. وهذا التواضع والتحفظ تحديدًا هو ما يجعل حضوره أكثر تأثيرًا. كل ظهور على المسرح هو درس في الأصالة، وكل أداء لحظة من النعمة.
في عالم يسود فيه الزائل، يجسد حسين بن ميلود طريقًا آخر: طريق الديمومة، والعمل العميق، واحترام الفن. إنه الدليل الحي على أن الموهبة الحقيقية لا تحتاج إلى الصراخ لتُسمع، وأن النفَس يمكن أن يحمل أبعد من الضجيج. في عالم الفلوت والناي، هو نجم. خفي، ولكنه أساسي.