غزة تنتفض من الركام: عودة الفلسطينيين إلى ديارهم المدمرة رمز للصمود والكرامة
جاري التحميل...

غزة تنتفض من الركام: عودة الفلسطينيين إلى ديارهم المدمرة رمز للصمود والكرامة
يعودون، واحدًا تلو الآخر، إلى بيوتهم التي تحولت إلى غبار. كل حجر، كل ظل، كل أثر يعود ليصبح ذكرى. غزة تبعث من جديد في خطواتهم، في دموعهم، في أناشيدهم. ويكتشف العالم أن كرامة شعب أقوى من كل الأسلحة.
خميس الغربي *

العودة إلى غزة هي انتصار للمقاومة والشجاعة. فمنذ الساعات الأولى لدخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، بدأت حشود كاملة من الفلسطينيين النازحين بالتحرك، عائدين إلى ديارهم أو ما تبقى منها.
كيف يمكن وصف هذا الجو؟ كيف يمكن ترجمة هذا الشعور الخام الذي يخنق الحناجر عندما نرى، على شاشات العالم أجمع، هذا المد البشري البطيء، الكثيف، المستمر يتجه نحو غزة؟
الروح تسمو فوق الركام
نساء، رجال، أطفال، شيوخ كلهم يتقدمون في صمت نابض بالحياة، بعضهم يرفع عينيه نحو السماء، وآخرون يضمون إليهم فراشًا، كرسيًا، أو قطعة من ماضيهم.
يكفي أن نغمض أعيننا لنرى المد البشري نفسه، قبل بضعة أشهر، يفر تحت القنابل، مطاردًا بالنار والحديد، مدفوعًا نحو المنفى من قبل جيش كان مقتنعًا بأنه سينجح في اقتلاع شعب بأكمله من جذوره.
لكن هذا الشعب لم ينحنِ. هذا الشعب لم يرفع الراية البيضاء. اليوم، هو يعود. وفي هذه العودة، كل شيء حاضر مئات الرموز.
رمز لامرأة نراها تجلس على حجر: كل ما تبقى لها من منزلها. تداعب قطعة قماش ممزقة وتهمس بأسماء أسماء أطفالها وزوجها المفقودين.
أبعد من ذلك، رجل عجوز ينقب في الأنقاض بحثًا عن مسبحته، عن ذلك الشيء الصغير الذي يحمل له عالمًا بأكمله.
تتقاطع نظراتنا مع نظرات أطفال عيونهم متسعة يحاولون التعرف على شارعهم، مدرستهم، غرفتهم. يشيرون إلى عمود، جدار، نافذة: كان هنا، حلمهم.
وهنا أرملة شابة، تقف أمام ما تبقى من غرفة زفافها ستارة، قطعة مرآة، ذكرى معلقة.
الجميع يجدون آثار حياة، أدلة على أنهم كانوا موجودين، وأنهم ما زالوا موجودين. وأنهم عادوا إلى ديارهم.
قيامة شعب أبيّ
ما نراه اليوم ليس مجرد نزوح: إنه قيامة. شعب ينهض من رماده، بأيدٍ عارية، ولكن بقلب مشتعل. شعب تحدى الموت، المنفى، والنسيان.
إنها هذه القوة غير المرئية ولكنها لا تُقهر التي بنت الجسر بين الاستعباد والحرية، بين الاستسلام والمقاومة. إنها هي التي انتصرت على آلات الحرب، وحملات التضليل، وضجيج الأقوياء.
غزة، اليوم، ليست مجرد أرض مجروحة: إنها رمز للكرامة الإنسانية. شعبها لم ينجُ فحسب: بل انتصر. انتصر على الخوف، انتصر على الإمحاء، انتصر على ابتزاز الترحيل. انتصر على وحش الموت. لأنه لا يوجد انتصار أكثر إشراقًا من انتصار شعب، بعد أن طُرد من بيته، وعلى وشك الترحيل، يعود واقفًا، رافعًا علمه، وعيناه تتطلعان إلى المستقبل.
هذه العودة ليست مجرد انتصار جيوسياسي إنها انتصار للثقة بالنفس، للعدالة، للشجاعة في مواجهة الهمجية، وللتمسك بأرض لا يمكن لشيء أن يهزها.
إلى أولئك الذين، بالقلم أو الصوت أو التضامن، دعموا هذا الشعب في عبوره للنار، يحق لهم أن يشعروا بفخر عميق: لقد سرتم إلى جانب الحياة، إلى جانب الإنسانية، إلى جانب التاريخ.
أما أولئك الذين فضلوا غض الطرف، أو الصمت، أو تبرير ما لا يبرر، فلتدعُهم هذه الصور إلى التأمل أو، الأفضل من ذلك، إلى اليقظة والضمير.
لقد أظهرت غزة للعالم أن الكرامة لا تُساوَم عليها. إنها تُعاش، وتُحمل، وتُدافع عنها. وعندما يمل العالم من سماع اسمها، ستستمر غزة في النهوض، وفي الغناء وسط الركام، وفي تذكير الجميع بأنه ما دام الشعب يحتفظ بذاكرته، فلن يضيع شيء.
* كاتب ومترجم.
