داخل خيمتها المتهالكة في أحد مخيمات النازحين جنوب قطاع غزة، تجلس نسرين (37 عاما) على سريرها، تحتضن ابنتيها بقوة وكأنها المرة الأخيرة.
انقلبت حياة نسرين رأسًا على عقب منذ أن أخبرها الأطباء أن أمامها حوالي عامين فقط لتعيشها بعد تشخيص إصابتها بسرطان الثدي في المرحلة الرابعة قبل شهرين فقط من بدء الحرب الإسرائيلية على غزة – الحرب الوحشية التي أدت إلى تفاقم مأساتها.
قبل الحرب على غزة، أقيمت فعالية “أكتوبر الوردي” في 2 أكتوبر 2023، أمام مستشفى الصداقة الفلسطيني التركي في مدينة غزة لرفع مستوى الوعي بسرطان الثدي. أطلق الحضور بالونات وردية وحمامات في السماء، بمناسبة شهر التوعية بسرطان الثدي، الذي يتم الاحتفال به طوال شهر أكتوبر (غيتي)
وكانت نسرين قد حصلت على تحويلة طبية للسفر إلى مصر لتلقي العلاج. تقول نسرين لـ”العربي الجديد”: “كنت على وشك السفر للعلاج، لكن الحرب اندلعت فجأة، دون أي إنذار مسبق”.
ومنذ ذلك الحين، حاولت نسرين مراراً وتكراراً السفر خارج القطاع، إلا أن كل محاولاتها باءت بالفشل، إلى أن أجبرتها الحرب على الفرار من منزلها في مدينة غزة إلى جنوب القطاع.
“عندما اضطررنا إلى الهروب، فقد زوجي مصدر دخلنا الوحيد، حيث كان يعمل سائق سيارة أجرة. في ذلك الوقت، أصبحت ابنتي الاثنتين من أولوياتي، فاضطررت للعمل في الخياطة لتوفير احتياجاتهما اليومية، وأضافت نسرين.
فقدان الأمل
وفي فبراير 2024، ساءت الحالة الصحية لنسرين وبدأت تعاني من آلام حادة، خاصة في منطقة الصدر. في تلك المرحلة، اتخذت القرار الصعب بالسفر للعلاج، وتركت ابنتيها في رعاية والدهما.
وتوضح نسرين أن “السلطات المصرية فرضت رسوم سفر باهظة تصل إلى خمسة آلاف دولار للشخص الواحد”. “ولما لم يكن لدينا هذا المبلغ، قررت أن أبيع المصوغات الذهبية التي احتفظت بها منذ زواجي”.
وبعد أن تمكنت من جمع الأموال اللازمة للسفر، حدث ما لم يكن متوقعًا: في مايو/أيار 2024، أغلقت القوات الإسرائيلية معبر رفح بالكامل.
وتتابع نسرين بحزن: “كان ذلك اليوم نهاية حلمي بالعلاج والتعافي”. “بكيت كثيراً حينها، وشعرت أنني فقدت الأمل في النجاة”.
أحمد، زوج نسرين (42 عاما)، يحاول التشبث بالأمل وإنكار الواقع المرير. يردد دائمًا لزوجته أن التشخيص الطبي الذي أعطاها عامين فقط للعيش كان مجرد خطأ وأن الأطباء أخطأوا في حساباتهم، لكنه في الواقع يعيش حالة من التشظي الداخلي، يحاصره إحساس عميق بالعجز والعجز. اليأس غير قادر على إنقاذ زوجته من مصيرها القاسي.
يقول أحمد لـ”العربي الجديد”: “كيف اجتمعت علينا كل هذه المصائب؟ الحرب والنزوح والمجاعة والإبادة الجماعية والسرطان الذي يهدد حياة زوجتي ويترك ابنتي على حافة اليتم”.
ويضيف أنه خلال عام من الحرب، نزحت عائلته تسع مرات، وفي كل مرة كانوا يبحثون عن مكان جديد لإقامة خيمتهم. “هل يمكنك أن تتخيل مدى قسوة هذا الوضع بالنسبة لمريض السرطان الذي يفتقر إلى أي رعاية؟”
قبل بدء الحرب، كان مرضى سرطان الثدي في فلسطين يحصلون على خدمات رعاية مهمة، بما في ذلك جلسات اليوغا المخصصة للنساء الخاضعات للعلاج. وكانت هذه الجلسات جزءا من حملة لدعم الناجين وتعزيز الفحص المبكر للمرض (غيتي)
ابنتا نسرين، بسمة البالغة من العمر 12 عامًا ورنا البالغة من العمر ست سنوات، لا تدركان ما يحدث لوالدتهما ولكنهما تدركان أن والدتهما ليست على ما يرام.
وتقول بسمة لـ”العربي الجديد”: “لم تعد والدتي تلعب معنا كالسابق، وأراها تبكي في أغلب الأحيان. أسألها ما الذي يبكيك يا أمي، فتنظر إلي وإلى أختي دون أن تجيب”.
لا دواء ولا مستشفيات
وفي قصة أخرى، تعيش فاطمة أبو زاهر (51 عاماً) معاناة مماثلة في مواجهة سرطان الثدي والنزوح المتكرر.
تم تشخيص حالة فاطمة منذ ثلاث سنوات وتمكنت من التغلب على مرحلة الخطر بعد عدة رحلات علاجية إلى مصر.
لكن ما يقلق فاطمة لا هو نفاد الدواء لمرضى سرطان الثدي في قطاع غزة، بالإضافة إلى تدمير الجيش الإسرائيلي لمستشفى الصداقة التركية الفلسطينية العام الماضي، والذي يعتبر الوحيد في القطاع المتخصص في علاج الأورام.
مستشفى الصداقة التركية الفلسطينية الذي تعرض لأضرار جسيمة في مدينة غزة يظهر الدمار بعد الهجمات الإسرائيلية وانسحاب القوات الإسرائيلية من شارع الشهداء في 11 فبراير 2024 (غيتي)
وأضافت فاطمة وهي أم لسبعة أطفال: “خلال الحرب لم أتلقى أي دواء، وشعرت بتدهور صحتي بسبب التهجير المتكرر داخل مدينة غزة حتى بدأت أشعر بحساسية شديدة في صدري نتيجة استنشاق الغبار والغبار”. دخان القنابل الإسرائيلية التي تقصف غزة باستمرار”.
وأوضحت أن ابنتها الكبرى خديجة نقلتها مؤخراً إلى المستشفى لإجراء أشعة مقطعية على صدرها. «اكتشفت من خلال هذا الفحص وجود ورم جديد في صدري».
وتابعت: “لقد صدمت من واقع علاج مرضى السرطان. لا يوجد علاج بيولوجي أو حتى مسكنات، وليس لدينا دواء لتقوية المناعة”.
وأشارت فاطمة إلى أن الطبيب نصحها بتناول الغذاء الصحي والفواكه بانتظام، لكنها أوضحت “لا يوجد طعام صحي أو حتى فواكه متوفرة في الأسواق. نحن نعيش مجاعة حقيقية في غزة”.
مصير مجهول
وقال الدكتور صبحي سكيك، مدير عام مستشفى الصداقة التركية الفلسطينية، لـ”العربي الجديد”، إن خسارة المستشفى الوحيد المتخصص في الأورام “يترك مرضى السرطان وحدهم يواجهون مصيرهم المجهول”.
وأفاد الدكتور سكيك أنه يتم تشخيص 360 حالة سرطان ثدي سنوياً في قطاع غزة، بمعدل حالة واحدة تكتشف يومياً.
وأوضح أن مرضى سرطان الثدي هم جزء من 10 آلاف شخص يعانون من مختلف أنواع السرطان في قطاع غزة، حوالي 1500 منهم فقط تمكنوا من مغادرة غزة خلال الحرب، أما البقية محاصرون في غزة وبحاجة ماسة للعلاج في الخارج. .
كما أشار الطبيب إلى أن نسبة الإصابة بالسرطان بين النساء في قطاع غزة تتفوق على الرجال حيث تصل إلى 54%.
ومع استمرار الحرب، يعاني مرضى السرطان بشكل أكبر بسبب سوء ظروف الإيواء، ونقص النظافة، وندرة الغذاء الصحي والمياه، مما يزيد من خطر حدوث مضاعفات والوفاة.
ويصف الدكتور سكيك الوضع الطبي بالكارثي، ويقول: “لا يوجد سوى مكانين يوفران المسكنات لمرضى السرطان في جنوب قطاع غزة، وهما مجمع ناصر الطبي في خان يونس، وعيادة الرازي في المنطقة الوسطى، لكنه أضاف: “لا توجد أدوية أو مستشفيات لرعاية مرضى السرطان في شمال قطاع غزة”.
تعيش مريضات سرطان الثدي معاناة صامتة وسط حالة من اللامبالاة الدولية. وقالت ريهام الجعفري، مسؤولة الاتصالات والمناصرة في منظمة أكشن إيد الدولية: “في حين يتركز اهتمام العالم على الفلسطينيين الذين يقتلون في الغارات الجوية في غزة، هناك موجة صامتة ولكن متزايدة من مرضى السرطان الذين يموتون دون داع لأنهم غير قادرين على الحصول على العلاج”. في بيان في وقت سابق من هذا العام.
وأضافت: “نحن نعلم أن التشخيص المبكر للسرطان ينقذ الأرواح، ولكن مع إرهاق نظام الرعاية الصحية في غزة وتركيز الناس الفوري على بقائهم على قيد الحياة، فمن المرجح أن مئات الحالات الأخرى لا يتم اكتشافها أو علاجها”.
رشا جلال كاتبة وصحفية من غزة تغطي الأحداث السياسية والقضايا الإنسانية.